البعد القيمي الإسلامي ومواجهة دعاة التغريب في عصر الميديا الجديدة ... أي هوية لجيل الشاشات الصغيرة "لغة الفرانكوآراب أنموذجا"

بقلم: أ.خالد حمادي، باحث في الميديا الجديدة،الجزائر 

إذا كان مفهوم الهوية يعني الاستمرارية ، فإن التغيرات السريعة التي تميز عصر ثورة المعلومات والتكنولوجيا قد أحدثت تأكلاً في الأسس التي اعتاد الناس على ترسيخ هوياتهم بها . على سبيل المثال ، إذا كانت اللغة العربية محددا ثابتا لهوية العربي ، فقد أدى الاستخدام المتنامي للحواسيب والإنترنت إلى تأكلها جزئيا لدى الأجيال الحالية ، وظهور ما تعرف بلغة « الفرانكوآراب » Franco Arab ، وهي لغة مستحدثة إلكترونيا ، غير محددة القواعد ، وتكتب بالحروف الأجنبية والأرقام ، وإن كانت تنطق مثل العربية تماما ، في حين أن الأجيال السابقة كانت تتعامل مع تشكيل الهوية بطريقة واقعية ، فقد أصبحت الأجيال الحالية تتعامل معها بطريقة افتراضية . ومن أمثلة ذلك أن التلاحم الاجتماعي بالمشاعر الحقيقية أصبح إلكترونيا بلا مذاق ( إعجاب ، حب ، ضحك ، حزن ، ... إلخ ) .وفي ظل افتراضية الواقع تلك يشعر المرء بالحاجة إلى استنشاق هواء طبيعي نقي ، وتملؤه الرغبة في الخروج من عالمه الحاسوبي المفترض.

فقدت الدول في ظل الإعلام الجديد القدرة على التحكم في تدفق الأفكار والقيم فيما بين المجتمعات ، حيث حملت العولمة في طياتها ايديولوجية التنميط والإختراق الثقافي التي تركز على صياغة ثقافة عالمية مندمجة لها قيمها وعاداتها وأخلاقياتها ومعاييرها لضبط سلوك الأفراد والشعوب . وفي ظل الثورة الاتصالية التي يشهدها العالم في العصر الحديث لم يكن المجتمع العربي في معزل عن هذه الأحداث ، إذ دخلت تكنولوجيا الاعلام المتقدمة ، وانتشرت ظاهرة الإبحار عبر شبكات التواصل الاجتماعي لدى فئات واسعة من المجتمع ، ومن هنا كان من الضروري أن تنتج آثار استخدامها على الهوية الثقافية العربية ، وكذا التأثير على مفهوم المواطنة الرقمية والبعد القيمي للمجتمعات في ظل هذه الوسائط الجديدة والظواهر الجديدة التي فرضتها على مختلف المستويات والبناءات الاجتماعية.

أن البعد القيمي للهوية العربية في عصر الميديا الجديدة يشهد العديد التطورات والتجاذبات والتشابكات بين مختلف البناءات وكذا التنوع المفاهيمي والفكري وتشذر العديد من الإتجاهات والأدوات والوسائل التي تبنى عليها القيم الإجتماعية ، والبعد الكبير والجديد الذي منحته وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الميديا الجديدة في نمذجة هويات ثقافية بقوالب متجددة ، و بصغبة رقمية لازلت ما بين القبول والرفض من مجتمع لأخر ومن ثقافة لثقافة أخرى ومن وسيط إعلامي لأخر ، هذا الأمر كان له تأثير كبير خصوصا في البيئة العربية والإسلامية لما أحدثه من إستمالات ونقاشات إجتماعية وافتراضية حول ماهيتها وكيفية قولبتها في الصياغ المجتمعي وفق المبادئ والقيم الإيجابية وتجاوز القيم السلبية وفق ما تقتضيه الضرورة والأحكام المرجعية الدينية والقانونية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والإعلامية وغيرها من الجوانب الأخرى المكملة لهذا البعد القيمي. 

دور المواطنة الرقمية كنموذج هوياتي جديد في دعم و صياغة صورة جديدة لهوية الثقافة العربية كغيرها من المجتمعات العالمية الأخرى والتي تسير ضمن العولمة العالمية والتي فرضتها قنوات الميديا الجديدة ، في جميع مناحي الحياة والتي أضحت القطب المهم في الصناعات الثقافية والمورثات المجتمعية ، وهذا الدور جعل البيئة العالمية اكثر تقاربا وإندماجا وحداثة ، وولد فجوات معرفية ميدياتيكية أكثر ديناميكية وجماهيرية عن الواقع الحقيقي الذي نعيشه ، ونحاول جعله يساير التطورات التكنولوجية الهائلة ، وذلك حسب خطط وخرجات ومدخلات هذا الإعلام الرقمي.

من أهم التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية العربية في ظل تعدد وتنوع وسائل الإعلام الجديد ، هو عدم توافقها في صياغة آليات وحلول وإستراتجيات سواء محلية أو إقليمية او عالمية والتي يجب أن تكون صورة نموذجية وأكثر فاعلية وتسويقا وترويجا وحداثة وذلك لما فحته لنا الميديا الجديدة من التنوع والتزامنية والتفاعلية والتواصل السريع بوسائط فائقة الدقة الرقمية ، فهذا الامر لج أ بنا نحو أدوار أخرى أكثر عولمة وتنميطا وتجديدا لهذه الأولويات وذلك عند كل وسيلة ، وحسب كل فرد ، وكل مجتمع ، وحتى كل بناء إجتماعي دخلت فيه هذه التكنولوجيات الرقمية الجديدة ، لأنها أصبحت ظاهرة مركزية تدار حولها كل قضية تخص المواطن الرقمي ، والبيئة الرقمية كافة ، ولذلك نجد أن الهوية الثقافية تواجه اكبر تحدي اليوم وهو كيف نحافظ على هذه الهويات الرقمية الجديدة في ظل الإنفتاح الرقمي السيبراني الرهيب ، الذي يتطور من عصر لأخر بوسائل وأقطاب أكثر تجاذبا وتشابكا.

ساهمت المواطنة الرقمية في طرح عدة إشكاليات نظرية وبحثية ومن ناحية تطوير هذا المفهوم خصوصا أنه مرتبط بوسائل رقمية متعددة ومتنوعة لكل منها لها خصائصها ومميزاتها وجمهورها وبدائلها التكنولوجية ودرجة أمانها السيبراني كون أن هذا الفضاء الرقمي أكثر تشاركية واستقطابا للثقافات والهويات الرقمية ، وفي عالم شبكي أصبحت تنتج فيه هويات مزيفة بعيدا عن الواقع الفعلي وهذه البيئة الجديدة أصبحت تطرح تساؤل مهم وهو كيف نعالج مفهوم المواطنة الرقمية في ظل إمتلاك كل منا تطبيقاته الإفتراضية ، وهويته والتي قد تعبر عنه او عن هوية فرد أخر ومجتمع مختلف ومن وسيط لوسيط أخر ، وبين المواطنة التي تخضع للرقابة المؤسساتية ، والمواطنة التي يصنعها الفرد والمجتمع الرقمي لوحده ، وبالتالي التوجه نحو ثقافة رقمية ممزوجة بين السير في فلك العولمة العالمية او محاولة صياغتها وفق ما تحتمه البيئة التي نحن فيها ولو بدرجات متفاوتة.

من الرهانات المستقبلية التي لابد من صياغتها وتجسيدها ضمن بنود تطوير والحفاظ على صبغة الهوية الثقافية للمجتمع العربي وهو الإندماج والإنصهار بشكل قوي وأدق فاعلية في مشروع وبوتقة الرقمنة التكنولوجية بشكل يضمن التشارك الفردي والمجتمعي والمؤسساتي والدولي والإقليمي وكل من له صلة بالمجال التطويري والتقني والبحثي وذلك حتى يسهم في تبادل الأفكار وإعداد قاعدة هوياتية رقمية ذات جودة تكفل ضمان الحماية والمشاركة الحرة والفعالة في التعبير عن ثقافته بما يضمن الإعتدال التوافقي لكل الثقافات مهما إختلفت وتنوعت وهذا طبعا بدون تجاوز الحدود التي تفرضها هذه البيئة الإفتراضية بناء على ما حدد القانون العام للأخلاقيات الإنسانية وفي إطار القيمية المجتمعية التي ولدت فيها هذه الهويات الثقافية الرقمية.

وإنطلاقا من هذه الإشكالات البحثية والتوجهات المتنوعة والمتعددة والتي ساهمت فيها الميديا الجديدة بشكل كبير وعلى كل الأصعدة القيمية و الهوياتية والثقافية وتجسيد مفهوم المواطنة بشكلها الرقمي الجديد ، كل هذه المنطلقات شكلت نقطة جوهرية وتحدي مهم للبيئة العربية في الحفاظ على هويتها وبيئتها وعاداتها ومبادئها الإسلامية بدرجة أولى في تجسيد مفهوم القيمة كأساس تقوم عليه في ترسيخ صورتها السمحاء في ظل تمازج الثقافات ، وتعدد الآراء ، وتحديات العولمة الرقمية التي أصبحت تشكل الجزء المهم من أي نظام عالمي ، وكذا تحديات الميديا الجديدة بدرجة أخرى مشكلة ومدعمة للبناءات الأخرى الاجتماعية والإقتصادية والسياسية والثقافية والدينية وغيرها من القطاعات الحياتية الأخرى ، فكل هذه الأمور تعد رهان وتحدي مستقبلي للثقافة والهوية العربية في وجود نسق جديد للمواطنة الرقمية.

لقد أصبح تشكيل الهوية يتم خارج نطاق محيط الأسرة والمجتمع ، بعد أن كان يخضع للمراقبة والتوجيه ، ومن ثم تزايدت معدلات الاكتئاب والانتحار والإلحاد والتطرف ، لاسيما بين فئتي المراهقين والشباب ! 

أصبح لدينا جيل مزدوج الهوية ؛ فهو من جهة الواقع جيل هش وغير راشد نتيجة الفساد المجتمعي وانعدام العدالة وتخلف برامج التعليم خصوصا في البلدان النامية ، وهو من جهة أخرى جيل فضولي يمتلك القدرة على التكيف مع العالم الافتراضي بأبعاده العالمية ، وسرعة التأقلم مع التعددية الثقافية ، حيث تتهاوي حواجز الحدود واللغة والدين والتاريخ !

في ظل المواطنة الرقمية يتكاثر يوميا من ندعوهم بمعدومي الجنسية – أو الهوية الوطنية – ويتشكل أمامنا عالم ليس لأحد فيه أن يدعي أنه مواطن حقيقي ، ينتمي إلى حيز جغرافي وتاريخي بعينه ؛ ففي كل مواطن من مواطني المجتمع الرقمي يكمن غريب أو مجہول ! - نحن جميعا نتحول إلى أرقام – مجرد أرقام تزداد أو تنقص ، تُضاف إلى قواعد البيانات أو تُحذف ، وفي عالم المواطنة والهوية الرقمية لا دية للأرقام ، ولا حتى وقفة عابرة للرثاء!

دراسة أجريت سنة 2012 بجامعة جورجيا ، تحت عنوان « النرجسية ومواقع التواصل الاجتماعي » Narcissism and Social Networking Web Sites ، اتضح أن ثمة علاقة وثيقة إيجابية بين النرجسية واستخدام الفيسبوك . كما أظهرت الدراسة أن أولئك الذين لديهم مستوى عال من النرجسية ، والذين يعانون من انخفاض مستوى الثقة بالنفس ، يقضون أكثر من ساعة يوميا على الفيسبوك . وذهبت الدراسة إلى أن الاستخدام المتكرر لوسائل التواصل الاجتماعي يرتبط بانخفاض مستوى الأداء الأكاديمي ، لكنه يؤدي في المقابل إلى ارتفاع مستوى احترام الذات والشعور بالانتماء لمجتمع ما ، هو في هذه الحالة المجتمع الرقمي الافتراضي.

في دراسة قدمها « شيري جراسموك » و « جيسون مارتن » و « شانيانغ تشاو » . Grasmuck , S. & Martin , J & Zhao , S سنة 2008 تحت عنوان « بناء الهوية في الفيسبوك » Identity Construction on Facebook ، وجد أن « أنفسنا » التي نقدمها على الفيسبوك کہویات مرغوبة اجتماعيا هي تلك التي نطمح في أن نكونها ، لكنها ليست حقيقية ، بل هوية زائفة.

أخيرا يشكل عدم احتواء برامجنا التعليمية ( المدرسية والجامعية ) على خطط وآليات لتدريس عناصر المواطنة الرقمية جزءا كبيرا من الأزمة ، وعائقا يحول دون الدمج الصحيح والملائم للمجتمع المحلي في المجتمع الدولي ، ودون المزج الأمن والمثمر بين الهوية الثقافية الحضارية من جهة ، والهوية الرقمية من جهة أخرى ، الأمر الذي يستوجب ضرورة اضطلاع الحكومات بمسؤولياتها تجاه شعوبها : تعليميا في المحل الأول ، ثم إعلاميا ومجتمعيًا وثقافيا وسياسيا.

في مجمل قولنا:

ضمان الحرية الثقافية وتدعيمها ، حيث أن حرية الثقافة ، وإن كانت تنبع من العدالة في توزيع الإمكانات والإبداعات الإنسانية على الأفراد ، فإنها في الوقت نفسه عامل أساسي في إغناء الحياة الثقافية وزيادة عطائها . ولكن لا يجوز فہم الحرية على أنها فتح للباب أمام كل تعبير ، وقبول كل فكر ، ولكن الحرية المقصودة هي الحرية المنضبطة بضوابط.

أن نتعرف على العولمة الثقافية ، والكشف على مواطن القوة والضعف فيها ، ودراسة سلبياتها وإيجابياتها برؤية إسلامية متفتحة ، غايتها البحث والدراسة العلمية ، وإدراك وفهم التناقضات التي تكتنف فكرة العولمة وكشف الزيف الذي تتستر قواها خلفه ولكن لابد أن يواكب عملية النقد الكلية للحضارة الغربية ، عملية أخرى هي عملية التخلص من الإحساس بمركزية الغرب ونزع صفة العالمية والعلمية والمطلقية عن حضارته وتوضيح أن كثيراً من القوانين العلمية التي يدافع عنها دعاة التغريب باعتبارها تصلح لكل زمان ومكان هي في واقع الأمر نتيجة تطور تاريخي وحضاري محدد وثمرة تضافر العديد من الظروف.

📌المراجع:

ملخص لمداخلة الأستاذ خالد حمادي،المؤتمر الدولي الثامن الموسوم بـ : النظر القيمية لصورة الآخر في وسائل الإعلام 16-15 ديسمبر،جامعة عبد الحميد بن باديس مستغانم كلية العلوم الاجتماعية  2021،عنوان المداخلة : المواطنة الرقمية والبعد القيمي للهوية الثقافية العربية في عصر الميديا الجديدة - التحديات والآفاق -


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا نريد معرفة يوميات الأخرين؟...بين سيميولوجيا الجذب لدى نجوم الميديا وترندينغ الجمهور الشبكي

الدعايات المحوسبة...الجيل الجديد من حروب الهاشتاغ و صناعة البوتات الرقمية عبر منصات الميديا الجديدة

خلف كواليس شاشات السوشيال ميديا! ... لعبة صناعة التأثير والتسويق للمؤثرين